تكشف إعادة انتخاب علي لاريجاني رئيسًا لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، في 29 مايو 2018، عن حرص النظام الإيراني خلال الفترة الحالية على عدم إجراء تغيير في توازنات القوى السياسية، ربما انتظارًا لتبلور تداعيات التطورات الطارئة على الساحة الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالمسارات المحتملة للاتفاق النووي، الذي يتعرض لتحديات عديدة بسبب الانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية منه وعدم قدرة الدول الأوروبية، حتى الآن، على تقديم ما تعتبره إيران ضمانات لاستمرار العمل به في المرحلة القادمة، فضلاً عن تصاعد حدة الاستياء من جانب العديد من القوى الإقليمية والدولية، بما فيها الحليفة لها، تجاه أدوارها الإقليمية، التي لا تهدد فقط باستمرار الأزمات الإقليمية دون تسوية، وإنما قد تؤدي إلى تفاقمها وتصاعد حدة التهديدات التي تفرضها على أمن واستقرار دول المنطقة.
مواجهة المعتدلين
اللافت للانتباه في هذا السياق، هو أن تيار المعتدلين الذي حقق النتائج الأبرز في انتخابات مجلس الشورى الأخيرة التي أجريت في عام 2016، كان قريبًا جدًا من انتزاع منصب رئيس البرلمان من تيار المحافظين، حيث نجح زعيم كتلة "أوميد" أو (الأمل) في المجلس محمد رضا عارف في الحصول على المركز الأولى خلال الجولة الأولى للانتخابات، بـ114 صوتًًا، يليه علي لاريجاني بـ101 صوتًا، ثم النائب المحافظ حميد رضا حاجي بابائي بـ54 صوتًا.
وقد دفع ذلك المحافظين الأصوليين، على ما يبدو، إلى ممارسة ضغوط على بابائي، من أجل الانسحاب لصالح لاريجاني، وهو ما تحقق بالفعل في النهاية، على نحو عزز من فوز الأخير بالمنصب مرة أخرى، حيث حصل على 147 صوتًا مقابل 123 صوتًا لعارف.
ومن دون شك، فإن ذلك لا ينفصل عن محاولات تيار المحافظين الأصوليين الاستفادة من تراجع الرهان على العوائد الاقتصادية للاتفاق النووي، من أجل إضعاف موقع تيار المعتدلين وتقليص هامش الخيارات المتاحة أمام حكومة الرئيس روحاني خلال المرحلة القادمة، على نحو قد يمهد تدريجيًا لإضعاف النفوذ السياسي للمعتدلين داخل مؤسسات النظام، إلى حين اقتراب موعد الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وعلى رأسها انتخابات مجلس الشورى عام 2020 وانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2021.
وتتوقع اتجاهات عديدة أن يستعيد المحافظون سيطرتهم على معظم مؤسسات صنع القرار في النظام، بالتوازي مع تصاعد حدة التوتر مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتدشين مرحلة جديدة من العزلة والعقوبات الدولية على إيران بسبب برنامجها النووي ودورها الإقليمي.
وبالطبع، فإن ذلك لا ينفصل أيضًا عن محاولات المحافظين منع تيار المعتدلين من تمرير مشروعاته السياسية خلال المرحلة القادمة، وخاصة بعد نجاح الأخير في استصدار قرار من لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان بالمصادقة على لائحة انضمام إيران إلى معاهدة حظر تمويل الإرهاب "FATF"، في 29 مايو 2018، مع وضع شروط متعددة لتفعيل ذلك.
ويرى المحافظون أن استمرار هذا النهج معناه تعزيز قدرة المعتدلين على فتح القضايا الخلافية الأخرى التي تحظى باهتمام خاص من جانب القاعدة الانتخابية المؤيدة لهم، وخاصة فيما يتعلق بقضية الإقامة الجبرية المفروضة على كل من مير حسين موسوي ومهدي كروبي زعيمى حركة الاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في يونيو 2009 وأسفرت عن فوز الرئيس السابق أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية.
رسالة لأحمدي نجاد
ويبدو أن الخلاف المستمر بين الأخير والمحافظين لم يكن بعيدًا عن تلك التطورات أيضًا. إذ ربما يمكن القول إن إعادة انتخاب لاريجاني رئيسًا للبرلمان يمثل رسالة من جانب تيار المحافظين لأحمدي نجاد وفريقه السياسي، الذي يحاول توسيع نطاق قاعدة المؤيدين له، بأن الجهود التي بذلها في الفترة الماضية من أجل إضعاف موقع عائلة لاريجاني، التي دخل معها في خلافات حادة منذ فترة رئاسته الأولى (2005-2009)، لم تحقق أهدافها، بدليل أن الشقيقين لاريجاني ما زالا يترأسان أهم سلطتين في النظام بعد مؤسستى الإرشاد والرئاسة، وهما السلطة التشريعية والقضائية.
وربما يمهد ذلك المجال أمام اتخاذ خطوات جديدة لتقييد تحركات هذا الجناح خلال المرحلة القادمة، التي يرى فيها النظام ضرورة ضبط حدود الصراعات السياسية الداخلية استعدادًا لتصاعد حدة الضغوط الخارجية، التي قد لا تقتصر فقط على العقوبات الأمريكية الجديدة التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إيران، لا سيما بعد أن أكدت الأخيرة على أن خلافاتها مع إيران لا تنحصر في الاتفاق النووي فقط، وإنما تمتد أيضًا إلى الدور الإقليمي، خاصة داخل دول الأزمات، وفي مقدمتها سوريا واليمن والعراق ولبنان.
حدود متداخلة
ومع ذلك، فإن نجاح لاريجاني في الاحتفاظ بمنصبه لا يمثل هزيمة كاملة للمعتدلين، لاعتبارات عديدة، يتمثل أهمها في أن لاريجاني كان حريصًا خلال الفترة الماضية على مواصلة التنسيق مع المعتدلين، على نحو دفعهم إلى إفساح المجال له للفوز بمقعد مدينة قم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، كما حرص على الوصول إلى توافق معهم حول القضايا والملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانب الحكومة.
ويمثل هذا التوافق آلية مستقرة سعى لاريجاني إلى مواصلة تبنيها خلال الأعوام الأخيرة، حيث تمكن من الاحتفاظ بقنوات تواصل مع كل القوى السياسية الرئيسية، حتى في ظل اتساع نطاق الصراع فيما بينها.
وقد بدا ذلك واضحًا في الدعم الذي قدمه لاريجاني للمساعي التي بذلتها الحكومة من أجل دفع البرلمان إلى المصادقة على لائحة انضمام إيران لمعاهدة مكافحة تمويل الإرهاب، رغم التحفظات العديدة التي أبداها بعض أقطاب تيار المحافظين ضدها، والتي أدت إلى إعادة المعاهدة إلى لجنة الأمن القومي لدراستها مجددًا، قبل أن تصادق الأخيرة عليها.
طموحات سياسية
وربما يسعى لاريجاني من خلال ذلك إلى تعزيز فرصه في الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية القادمة التي سوف تجري في عام 2021، وهو الهدف الذي حاول تحقيقه أكثر من مرة إلا أنه كان يتعرض باستمرار لضغوط من أجل الانسحاب ودعم بعض المرشحين الآخرين.
ومن دون شك، فإن لاريجاني يرى أن عدم ترشح الرئيس الحالي حسن روحاني، الذي تولى منصبه لفترتين متتاليتين، في الانتخابات القادمة يمكن أن يدعم قدرته على الوصول إلى هذا المنصب، خاصة أن ذلك سوف يُعرِّض تيار المعتدلين لأزمة داخلية بسبب عدم وجود شخصية تحظى بإجماع داخله يمكن أن تترشح للانتخابات القادمة وتحافظ على الرصيد السياسي للمعتدلين الذي تحقق في الأعوام الأخيرة.
لكن هذه الطموحات ربما تواجه عقبات لا تبدو هينة، أهمها أن هناك منافسين عديدين للاريجاني، خاصة من داخل تيار المحافظين الأصوليين، ربما تتعزز فرصهم في ظل الضغوط الدولية التي تتعرض لها إيران حاليًا، على غرار إبراهيم رئيسي المشرف على العتبة الرضوية في مدينة مشهد والمرشح الخاسر في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
كما أن فرص لاريجاني نفسها سوف تكون مرتبطة في النهاية برؤية المرشد الأعلى علي خامنئي لاتجاهات توازنات القوى السياسية في الداخل، وهو متغير سوف يتأثر بالمسارات المحتملة للتصعيد الحالي مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يأتي هذا التصعيد، غالبًا، في غير صالح تيار المعتدلين أو الأطراف القريبة منه.